طبق أمي...
- Haneen Adel
- 6 أكتوبر 2021
- 4 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: 24 فبراير 2023

ولدت، وأُخبر العالم بحضورها. …صرخات طفله يفرح بها الوجود.
مرت بها الأيام وهي تنمو وتكبر وكأنها شجرة يانعة ؛ غُرِست جذورها بأرضٍ طيبة ...لعلها يوما ما تثمر.
هكذا بدأت تشق طريقها.. طفلة في العاشرة من عمرها.
-" أمي، إني اشتهي طبقك، هلاّ أعددته لي، من فضلك؟ فنفسي تشتاق وتتلهف لمذاقه الرائع؟".
الأم: "بما أنك تشتهينه يا بنيّتي، أعديه بنفسك".
ككل طفلة، جُلّ ما يشغل فكرها في ذلك العمر الطفولي؛ الركض واللعب والمرح والطعام المجهز ؛ متى ما جاعت تجده في أجمل تحضير وألذ نكهة. ردها دوما كان الـتأفف والضجر.
- "أمي كلما طلبتك طعاما أشتهيه، تطلبين مني تحضيره. لماذا أنتِ أمي، هذا دوركِ انتِ؟ أنا أحب طعامك أنتِ. أريد اللعب لا أحب أعداد الطعام، لا أعرف! "
ولاكن الأم كانت دوما تُجيبها في هدوء وحكمة:
-" لا بأس يا بنيتي، سأقف بجانبك وأُساعدك في تحضيره ليصبح مذاقه كمذاق طبقي. دون ذرة اختلاف ".
مع كثيرا من التشجيع يتحول به الضجر إلى شوق وحب وشغف لتعلم كل طبق أحبته من يد حلوة اللبن. حتا اصبحت تسبقها لإعداد كل المقادير الازمة لطبقها اليوم.
مرت الأيام.. وتحولت الساعات الى سنين، ورنَّت أجراس القدر لموعد الرحيل؛ الذي حان به الوقت لتحزم أمتعتها، وتسير بدروب الحياة؛ لتبدأ رحلتها في بلادٍ ليست بلادها؛ لا تتقن لغتها ولا تعرف قاطنيها، مجهولة... كغموض المستقبل ولوحات القدر، بين سقطات وبين وقفات، مواجهة صراع الناضجين، وكفاح المجاهدين.
رحلت بعيدا؛ تقفز في سعادة خلف أحلامًا...ظنت أنها قريبه؛ تلامسها كلما مدت كفّها نحو أشعة الشمس المشرقة لتراقص كفها، متخللةً الفراغات بين أصابعها وكأنها تصافحها في كل صباح.
قريبة... كحبات اللؤلؤ المصفوفة في تناسق جميل حول عنقها.
براقة...مبهره ، تتراقص كأميرات البجع في خطواتها بفستان ابيض.
تدور في تناغم سيمفوني مع النسمات وكأن الوجود قد أكتفى بها. فوق انهار تسري بها الحروف، أسماكاً تزينها ...
"سلاما على من استقى العلم.. سلاما".
رحلت في سعادةعابرة في دروب العالمين. تستقي العلم من قصورٍ زجاجية، فوق قمم الأمل، لتتوِّج به ذاتها وتكسي من طيبات الدعاء ذويها. في زمن أُغلقت به أبواب الأمل في موطنها.
ارادت أن تعود بمفاتيح الذهب السحرية التي لا ينغلق معها باب. ظنت أن العالم الجديد هو الخلاص ...حامله عتادا تثقل به ركاب قومٍ هاجروا في عمر الصبا، لا تعانقه سوى زهور الأمل اليانعة.
ظل الساق يمشي والجذع مغروس بثرى أرضها، لأكنه ظلّ محمولاً في عربات، حرصت على وجود نوابضها. فلا يهز سيرها الحصوات والحجارة الملقاة في انحاء الطريق.
رحلت الى احدى دول الغرب لتحصيل أعلى ثمار العلم. ولاكن في منتصف طريقها تعرقلت، حتى ظنت أن لا مخرج لها. لا مال يعينها ولا قوة تكفيها عن شرور أحاطت بها، ومكائد وصعاب عرقلتها ؛ مهما حاولت النهوض ظلت تعرقلها.
في كل مكالمتها للاطمئنان على أهلها، كانت تراقب انعكاسها! كفتاة وحيدة في دولة غريبة، الخوف، والقلق، وقرار العودة للوطن ؛
: "فهكذا هي خيرة الخالق دامت الصعاب مازالت توقف طريقك"... سيكون أسرع الردود لمسامعها.
في يوم من الأيام توجهت الى المركز الإسلامي الوحيد المتوفر في تلك المدينة في انكسار وضعف ،لعل السجود بين يدي الله ينير بصيرتها ،ويرشدها إلى الحل.
في المركز، لاحظت اجتماع من الجاليات العربية من جميع الجنسيات معظمهم طلاب للعلم؛ إما عوائل لديهم العديد من الأطفال، أو شباب وفتيات في مقتبل العمر. كان الجميع محتفل في ذلك اليوم الفضيل من الأسبوع، والأطباق تملأ المائدة بما لذ وطاب.
في تلك اللحظة... أخذت نفسا عميقا أعادها لأحضان أمها... وتوجيهاتها وهي تخبز بيدها المباركة ،وكأنها تنثر الخير زيتا لدقيقها، والحُب أرزاً ليخنتها، والحنان إناءً لمسكبها.
قالت في نفسها في حنين وشوق:
-"لا أظن أنني الوحيدة هنا، التي تأججت بداخلها هذه المشاعر، لابد من وجود مشتاق غيري في هذه المدينة الغريبة ".
حينها اخذت تحلل ،وتدرس ،وتفكر بأن تقدم جميع الأكلات الشعبية والعربية. فلا يتواجد في مدينتها مشروع من هذا القبيل ، ولكي يتحصل القانطين من العرب على ما يتمنون. كان عليهم السفر الى المدن المجاورة؛ حيث أقرب مدينة كانت تبعد حوالي 4 ساعات عنهم، فقط! ليتحصلوا على الرغيف العربي او غيره من الاطباق.
درست، وحللت، وأخذت المشورة من أصحاب المصلحة من اصدقائها في المدن المجاورة .ثم قررت أن تبدأ؛ لتعيل نفسها وتكمل طريقها. علمت انه عمل شاق؛ خصوصا انها ستقف ساعات طويله في التحضير والإعداد بمفردها دون معين، وعليها أن توازن بين ساعات الدوام الدراسية الكاملة المطلوبة منها كمغترب دولي بالجامعة، وبين إرضاء زبائنها حتى لا تخسر مصدر من مصادر رزقها.
كانت تؤمن بداخلها أن تحكم الانسان بمصيره، أكثر أهمية مما قد يكون عليه هذا المصير. كانت تعلم أن ما يشكل حياتنا اليومية؛ هو ما نختاره من سلوك وردود أفعال. فعندما يكون السلوك صحيحا لن يكون هناك حد للارتفاع، ولا عمق للقاع، ولا تفريط بالأحلام، ولا تحدّي يمكن ان يكون عظيما أو صعبا عليها.
بدأت بمباشرة مشروعها ،ملتزمة بما نصحها به أصحاب الخبرة:
-"لا ترفضي طلب زبون حتى لوكان الساعة 6 صباحا، استيقضي قبلها واعديه وقدميه. لتنجحي في هذا المجال عليك ان تجيدي ليس فقط الطهي، ولاكن أن تحرصي على أرضاء العميل في كل وقت يطلبك، أبداً لا تغلقي باباً للرزق".
كانت تقف من الساعة السابعة صباحا لإعداد وجبات الإفطار حتا تسلم جميع الطلبات. وفي الساعة العاشرة صباحا، تتوجه للجامعة. ثم في تمام الساعة الثانية ظهرا، تعود لتسليم طلبات الغداء وتبدأ بعدها بالتحضير لطلبات العشاء ، ثم تتوجه للجامعة لإكمال ساعات يومها الدراسية.
في تمام الساعة الثامنة والنصف مساءاً، تعود للمنزل لتبدأ بأعداد وتسليم طلبات العشاء حتا الساعة التاسعة والنصف مساءا.
بعدها ، كانت تأخذ قسطا من الراحة بعد عناء يوم شاق بين طلب العلم وبين جهد العمل. ثم تعود لتكمل يومها في الدراسة والبحث .فلا تخلد الى النوم إلا وهي منهكة.
ولكن لذاك العناء لذة وشفاء؛ كرحيق العسل السنتوري.في كل دخل تحققه كان الفرح والضحكات تملأ بيتها. كان يمدها بالسعادة والطاقة للمواصلة. استطاعت ان تحقق أسبوعيا عائد ما بين 450 الى 650 دولار ، تمكنت بها من تسديد جميع فواتيرها ،وأجار منزلها ،والتزاماتها الأساسية، وتوفير اساسيات الحياة، وأيضا تسديد مستحقات الجامعة فلا تتعرقل دراستها. لا.. وبل أيضا !تمكنت من تطوير مهاراتها في العديد من الدورات المهنية والاحترافية في ذلك البلد.
كانت تجتهد في صمت دون أن يعلم محيطها بحاجتها، او بالعراقيل في طريقها، أو حتى الصعوبات التي كانت تمر بها. رسمت لنفسها نهاية وارادت ان تصل... بعيون عربية أصيلة كعينا الخيل في مضمار السباق، لا تحيد رؤياه عن نقطة النهاية.
حينها أدركت فضل تلك الأم الرحيمة. كانت تدعو لها بعد كل مال تكسبه من طبق أعدته يوما ما معها.
كانت اول مهنة حرفية لها تمكنت بها من تحقيق حلمها، والعودة لوطنها مرفوعة الرأس متوجه بتاج العلم مرددة في نفسها:
-"تبا لكل اف قيلت لكي أمي ،فلا خير في الدنيا وجدته ... لولا الخير الذي حمله لي طبق أمي. شكراً لكي أمي ".

Commenti